الأربعاء 18 مارس 2020 06:30 صباحاً
نافذة على العالم - مع حلول الذكرى التاسعة لانطلاق ثورة الحرية والكرامة، تثور أسئلة سوداوية عن المصير والمستقبل، في ضوء المعطيات القائمة أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ وأسئلة عن سبل الخروج من تحت الأعباء الثقيلة والكثيفة التي ترتبت على سياسات النظام الحاكم والقوى الإقليمية والدولية التي دعمته في خياره المدمر للدولة والمجتمع، وعما يستدعيه ذلك من المعارضة السورية، بقادتها وكوادرها ومثقفيها، كي تستطيع لعب دور إيجابي في معركة الخروج من هذا الحال، ووضع البلد على طريق الحرية والكرامة والعدل والمساواة وسيادة القانون والحريات العامة والخاصة، والفصل بين السلطات والمواطنة، في دولةٍ حديثة ونظام ديمقراطي، هدفها المعلن منذ سنين.
لم تنجح أحزاب المعارضة في التعاطي مع المتغيرات المحلية، في ضوء هشاشة بنيتها الفكرية والتنظيمية. ولعب الضغط الأمني دورا وازنا في تكريس هذه الهشاشة، حيث بقي حجمها صغيرا، بالقياس لعدد السكان، وانتشارها محدودا، اقتصر على تجمعاتٍ في عدد من المدن الرئيسة. لم تحاول التعمّق في فهم بنية الوعي السياسي ومحدّداته في التجمعات الشعبية، والعمل على اقتحامها، فافتقرت لمعرفتها ولتقدير حدة احتقانها وتوترها الداخلي، وردود أفعالها المحتملة على سياسات النظام، وانعكاساتها على حياتها وإحساسها بعدم الأمان. وقد برزت سلبية ذلك في الأيام الأولى للثورة، حيث ظهرت غربة الأحزاب عن الجماعات والتجمعات التي خرجت في التظاهرات؛ وتعمّقت الغربة بعد عجزها عن مد جسور التواصل معها، والالتحام بها، والانخراط في الثورة ومعاركها السياسية والإعلامية، ما أفقد الثورة فرصة الاعتماد على أطر للتنسيق والتشبيك، وغرف عمليات وإدارة جاهزة، ما اضطرّها لإقامة هذه الأطر بجهد ذاتي، عبر تشكيل تنسيقياتٍ بقيت هشّة، نتيجة حداثة التجربة وعدم وجود سوابق عملية ومعرفة وثيقة بين المساهمين في إقامتها، وهذا تجلى في أهم عيبين ظهرا في مسيرة الثورة:
الأول، غياب تنسيق عميق وقرار جماعي لفعاليات الثورة وخططها المستقبلية، ما حوّل الحراك "لم تنجح أحزاب المعارضة في التعاطي مع المتغيرات المحلية، في ضوء هشاشة بنيتها الفكرية والتنظيمية"الشعبي إلى حراك مناطقي محكوم بقوى محلية وقدرات سياسية وتنظيمية ضعيفة، وتحوّل المناطقية إلى مقياس معتمد في العلاقات بين القوى والمناطق، وقاعدة لمطالب وأدوار في مؤسسات المعارضة التي نشأت لاحقا، وفي تقاسم الدعم الخارجي.
ثانيا، غض النظر عن عيوب الثوار وأخطائهم، وتأييد ما يحصل فيها، أو السكوت عنه، ليس من باب الاقتناع بصحته وسلامة منطلقاته ومآلاته، أو القبول بما يحصل؛ بل تأييدا انتهازيا على أمل تحصيل مقعد في الثورة، والمشاركة في صياغة سورية الجديدة التي ستقوم بانتصار الثورة الحتمي. وهذا قاد إلى تراكم الأخطاء والتخبط والعجز عن الاستدراك ومراجعة مسيرة الثورة وترشيد خطواتها اللاحقة.
تحتاج أحزاب المعارضة لإعادة نظر في توجهاتها العامة وتصوراتها السياسية وإقامة رؤية جديدة، في ضوء دراسة المجتمع السوري ببناه الاجتماعية والدينية والمذهبية وسياسات النظام في رده على الثورة ومطالبها، وانعكاس ذلك على المجتمع والدولة ومستقبلهما، وتحديد أرضية معلوماتية ومفاهيمية للتحرّك واستدراك الأخطاء ومواجهة العقبات، وإعطاء مساحة أكبر للجانب العملي، والتخفف من آليات عملٍ أساسها الاجتماع خلف أبوب مغلقة، على أمل تعديل المسار، والانطلاق نحو إعادة مطالب الثورة إلى الطاولة، لأخذها بعين الاعتبار من القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع على سورية.
وهنا يرى كاتب هذه السطور أن أول القضايا التي تحتاج إلى إعادة نظر الموقف من الأديان بعامة، والإسلام بخاصة، لما له من موقع مركزي ودور في تكوين شخصية السوري، وانطوائه على طاقة ثورية عظيمة، ودفع قوي للتضحية في سبيل العقيدة والقيم الأخلاقية، ولموقعه في "الاعتبارات التاريخية والثقافية تفرض احترام العامل الديني، باعتباره عاملا مكونا في شخصية المسلمين وثقافتهم وسلوكهم العام والخاص"وعي المواطنين وخياراتهم وتفضيلاتهم؛ وعدم تركه لحركات الإسلام السياسي، توظفه في الحشد خلف رؤاها السياسية والاجتماعية، ما يستدعي تليين النظرة العلمانية المنطلقة من اعتبار الدين أساس اغتراب الإنسان، وتحطيم ذاته وتمزيق شخصيته، واعتبار نبذ الدين وإخراجه من الحياة ونظمها وقوانينها مهمة أولى ورئيسة على طريق التحديث والديمقراطية، بتجاهل تام للدور الذي لعبه الدين وما زال في حياة الإنسان، الفرد والجماعة، وتجاهل ظاهرة تعدّد أنماط العلمانية في التجربة الغربية؛ فهناك النمط الفرنسي المتصلّب، يوصف باللاديني، أو اللاييكي بالفرنسية، الأثير على قلوب علمانيي بلاد المسلمين، والنمط البريطاني الذي قضى بإعطاء الدين دوراً، وإن كان محدوداً، عبر الاعتراف به في حياة المواطنين ومنح الكنيسة استقلالية وحرية عمل اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً، وتعيين 25 رجل دينٍ مسيحيٍ في مجلس العموم البريطاني، والنمط الأميركي المتصالح مع الدين، والمنطلق من نظرة تقول: "إن ثمة إمكاناً لتنظيم العلاقة بينهما وجسر الهوة عبر التنسيق بين فرضياتهما وقيمهما بما يخدم هدفهما المشترك: الإنسان"، ما جعله لا يرى تناقضا بين علمانية الدولة وفرض الصلوات في المدارس الرسمية، وعدم الانطلاق من نظرةٍ أحاديةٍ تقفز على حقائق التاريخ والضرورة الاجتماعية، وتتجاهل مستدعيات التصور العملي والخطة الصائبة بجناحيها: المعقولية والعملية، فالاعتبارات التاريخية والثقافية تفرض احترام العامل الديني، باعتباره عاملا مكونا في شخصية المسلمين وثقافتهم وسلوكهم العام والخاص، والضرورة الاجتماعية تستدعي أخذ التطور المفاهيمي والقيمي والتقني والمؤسسي الحديث في صياغة نظمنا السياسية وعلاقاتنا الاجتماعية خدمة للإنسان في حقوقه وواجباته، بحيث تصبح حياته أكثر أمناً واستقراراً وحرية، ما يستدعي عدم اعتماد مواقف نمطية جامدة واستبعاد هذا العامل أو ذاك، والعمل على جسر الهوة مع الرؤى والقناعات الشعبية ذات الجذر الديني، بالبحث عن تقاطعاتٍ، وطرح تأويلات وحلول وسط تجعل الرؤى والخيارات الحديثة قريبةً من المزاج العام، تمهيدا للدخول في تفاهمات وعقود اجتماعية مناسبة.
المصدر : أخبار العالم : المعارضة السورية .. ضرورة تصحيح البوصلة